فصل: النوع الثاني الأيمان التي يحلف بها الخلفاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.النوع الثاني الأيمان التي يحلف بها الخلفاء:

وقل من تعرض لها لقلة وقوعها، إذ الخليفة قلما يحلف: لعلو رتبته، وارتفاع محله؛ ومدار تحليف الخلفاء بعد القسم بالله على التعليق بوقوع المحذور عليهم، ولزومه لهم، مثل البراءة من الخلافة والانخلاع منها، وما يجري مجرى ذلك. ولم أقف على ذلك إلا في ترسل الصابي، وذلك حين كان الأمر معدوقاً بالخلفاء.

.الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الثامنة في نسخ الأيمان المتعلقة بالملوك:

وفيه خمسة مهايع:

.المهيع الأول في بيان الأيمان التي يحلف بها المسلمون:

وهي على نوعين:

.النوع الأول من الأيمان التي يحلف بها المسلمون: أيمان أهل السنة:

وهي اليمين العامة التي يحلف بها أهل الدولة: من الأمراء والوزراء والنواب، ومن يجري مجراهم.
وهذه نسخة يمين أورده في التعريف وهي:
أقول وأنا فلان: والله والله والله، وبالله وبالله وبالله، وتالله وتالله وتالله، والله العظيم الذي لا إله إلا هو، الباريء الرحمن الرحيم، عالم الغيب والشهادة، والسر والعلانية، وما تخفي الصدور، القائم على كل نفس بما كسبت، والمجازي لها بما عملت، وحق جلال الله، وقدرة الله، وعظمة الله، وكبرياء الله، وسائر أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا إنني من وقتي هذا، وما مد الله في عمري، قد أخلصت نيتي، ولا أزال مجتهداً في إخلاصها، وأصفيت طويتي، ولا أزال مجتهداً في إصفائها، في طاعة مولانا السلطان فلان الفلاني- خلد الله ملكه- وخدمته محبته، وامتثال مراسيمه، والعمل بأوامره، وإنني والله العظيم حرب لمن حاربه، سلم لمن سالمه، عدو لمن عاداه، ولي لمن والاه من سائر الناس أجمعين، وإنني والله العظيم لا أضمر لمولانا السلطان فلان سوءاً ولا غدراً، ولا خديعة ولا مكراً، ولا خيانة في نفس ولا مال، ولا سلطنة، ولا قلاع ولا حصون، ولا بلاد ولا غير ذلك ولا أسعى في تفريق كلمة حد من أمرائه، ولا مماليكه، ولا عساكره، ولا أجناده، ولا عربانه ولا تركمانه ولا أكراده، ولا استمالة طائفة منهم لغيره، ولا أوافق على ذلك بقول ولا فعل ولا نية ولا بمكاتبة ولا مراسلة، ولا إشارة ولا رمز، ولا كناية ولا تصريح؛ وإن جاءني كتاب من أحد من خلق الله تعالى بما فيه مضرة على مولانا السلطان أو أهل دولته لا أعمل به، ولا أصغى إليه، وأحمل الكتاب إلى ما بين يديه الشريفتين، هو ومن أحضره إن قدرت على إمساكه.
وإنني والله العظيم أفي لمولانا السلطان بهذه اليمين من أولها إلى آخرها، لا أنقضها ولا شيئاً منها، ولا أستثني فيها ولا في شيء منها، ولا أخالف شرطاً من شروطها، ومتى خالفتها أو شيئاً منها، أو نقضتها أو شيئاً منها، أو استثنيت فيها أو في شيء منها طلباً لنقضها، فكل ما أمله: من صامت وناطق صدقة على الفقراء والمساكين، وكل زوجة في عقد نكاحه أو يتزوجها في المستقبل فهي طالق ثلاثاً بتاتاً على المذاهب، وكل عبيدي وإمائي أحرار لوجه الله؛ وعليه الحج إلى بيت الله الحرام بمكة المعظمة، والوقوف بعرفة ثلاثين حجة متواليات متتابعات كوامل، حافياً ماشياً، وعليه صوم الدهر كله إلا المنهي عنه، وعله أن يفك ألف رقبة مؤمنة من أسر الكفار، ويكون بريئاً من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم ومن دين الإسلام إن خالفت هذه اليمين أو شرطاً من شروطها.
وهذه اليمين يميني وأنا فلان، والنية فيها بأسرها نية مولانا السلطان فلان، ونية مستحلفي له بها، لا نية لي ف باطني وظاهري سواها؛ أشهد الله علي بذلك، وكفى بالله شهيداً؛ والله على ما أقول وكيل.
قلت: عجيب من المقر الشهابي رحمه الله ما أتى به في نسخة هذه اليمين، فإنه أتى بها بلفظ التكلم إلى قوله: وكل زوجة فعدل عن التكلم إلى الغيبة، وقال في نكاحه، وكذلك ما بعده إلى قوله: من أسر الكفار ويكون بريئاً من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم إن خالفت هذه اليمين وأتى بصيغة التكلم إلى آخر الكلام. فأن كان فر في قوله: وكل زوجة في نكاحه خوفاً من أن يقول: في نكاحي فتطلق زوجته هو، فلا وجه له: لأن الحاكي لا يقع عليه الطلاق، وكذا ما بعده من العتق وغيره.
وأعجب من ذلك كله قوله: ويكون بريئاً من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن دين الإسلام إن خالفت؛ فجمع بين الغيبة والتكلم في حالة واحدة!!. على أن ما ذكره بلفظ الغيبة إنما هو فيما سطره في النسخة. أما إذا كتبت اليمين التي يحلف بها، فإنها لا تكون في الجميع إلا بلفظ التكلم؛ فما المعنى في أنه خاف من الوقوع في المحذور عند حكاية القول، ولم يخف مثل ذلك فيما يكتبه في نفس اليمين؟.
وقد ذكر صاحب التثقيف جميع ذلك بلفظ التكلم، مع المخالفة في بعض الألفاظ وزيادة ونقص فيها.
وهذه نسختها؛ وهي:
أقول وأنا فلان بن فلان: والله والله والله، وبالله وبالله وبالله، وتالله وتالله وتالله، والله الذي لا إله إلا هو، الباريء الرحمن الرحيم، عالم الغيب والشهادة، والسر والعلانية، وما تخف الصدور، القائم على كل نفس بما كسبت، والمجازي لها بما احتقبت، وحق جلال الله، وعظمة الله، وقدرة الله، وكبرياء الله، وسائر أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا، وحق القرآن الكريم ومن أنزله، ومن أنزل عليه- إنني من وقتي هذا، ومن ساعتي هذه، وما مد الله في عمري قد أخلصت نيتي، ولا أزال مجتهداً في إخلاصها، وأصفيت طويتي، ولا أزال مجتهداً في إصفائها- في طاعة السلطان الملك الفلاني، فلان الدنيا والدين فلان- خلد الله ملكه- وفي خدمته ومحبته ونصحه، وأكون ولياً لمن والاه، عدواً لمن عاداه، سلماً لمن سالمه، حرباً لمن حاربه: من سائر الناس أجمعين؛ لا أضمر له سوءاً ولا مكراً، ولا خديعة ولا خيانة في نفس، ومال، ولا ملك؛ ولا سلطنة، ولا عساكر، ولا أجناد، ولا عربان، ولا تركمان، ولا أكراد، ولا غير ذلك، ولا أسعى في تفريق كلمة أحد منهم عن طاعته الشريفة، وإنني والله العظيم أبذل جهدي وطاقتي في طاعة مولانا السلطان الملك الفلاني، فلان الدنيا والدين المشار إليه؛ وإن كاتبني أحد من سائر الناس أجمعين بما فيه مضرة على ملكه لا أوافق على ذلك بقول ولا فعل ولا نية؛ وإن قدرت على إمساك الذي جاءني بالكتاب أمسكته، وأحضرته لمولانا السلطان الملك الفلاني المشار إليه، أو النائب القريب مني. وإنني والله العظيم أفي لمولانا السلطان المشار إليه بهذه اليمين من أولها إلى آخرها، لا أستثني فيها ولا في شيء منها، ولا أستفتي فيها ولا في شيء منها. وإن خالفتها أو شيء منها، أو استثنيت منها، أو استفتيت طلباً لنقضها أو نقض شيء منها، فيكون كل ما أملكه من صامت وناطق صدقة على الفقراء والمساكين من المسلمين، وتكون كل زوجة في عقد نكاحي أو أتزوجها في المستقبل طالقاً ثلاثاً بتاتاً على سائر المذاهب، وتكون كل أمة أو مملوك في ملكي الآن أو أملكه في المستقبل أحراراً لوجه الله تعالى، ويلزمني ثلاثون حجة متواليات متتابعات، حافياً حاسراً، وعلي صوم الدهر بجملته إلا الأيام المنهي عن صومها.
وهذه اليمين يميني، وأنا فلان بن فلان، والنية في هذه اليمين بأسرها نية مولانا السلطان الملك الفلاني المشار إليه، ونية مستحلفي له بها، لا نية لي في غيرها، ولا قصد لي في باطني وظاهري سواها. أشهد الله علي بذلك، وكفى بالله شهيداً، والله على ما أقول وكيل.
قلت: وربما كان للسلطان ولي عهد بالسلطنة فيقع التحليف للسلطان ولوله جميعاً، وهي على نحو ما تقدم، لا يتغير فيها إلا نقل الضمير من الإفراد إلى التثنية.
وهذه نسخة يمين حلف عليها العساكر للسلطان الملك المنصور قلاوون في سنة ثمان وسبعين وستمائة له ولولده ولي عهد الملك الصالح علاء الدين علي أوردها ابن المكرم في تذكرته؛ وهي: والله والله والله، وبالله وبالله وبالله، وتالله وتالله وتالله، والله العظيم الذي لا إله إلا هو، الرحمن الرحيم، الطالب الغالب، المدرك المهلك، الضار النافع، عالم الغيب والشهادة، والسر والعلانية وما تخفي الصدور، القائم على كل نفس بما كسبت، والمجازي لها بما احتقبت، وحق جلال الله، وعزة الله، وعظمة الله، وسار أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا- إنني من وقتي هذا، ومن ساعتي هذه، وما مد الله في عمري قد أخلصت النية، ولا أزال مجتهداً في إخلاصها، وأصفيت طويتي ولا أزال مجتهداً في إصفائها، في طاعة السلطان فلان، وطاعة ولده ولي عهده فلان، وخدمتهما وموالاتهما، وامتثال مراسيمهما، والعمل بأوامرهما. وإنني والله العظيم حرب لمن حاربهما، سلم لمن سالمهما، عدو لمن عاداهما، ولي لمن والاهما. وإنني والله العظيم لا أسعى في أمر فيه مضرة على مولانا السلطان، ولا في مضرة ولده، في نفس ولا سلطنة، ولا إستمالة لغيرهما، ولا أوافق أحداً على ذلك بقول ولا فعل، ولا مكاتبة ولا مشافهة، ولا مراسلة، ولا تصريح. وإنني والله العظيم لا أدخر عن السلطان ولا عن ولده نصيحة في أمر من أمور ملكهما الشريف، ولا أخفيها عن أحدهما، وأن أعلمه بها في أقرب وقت يمكنني الإعلام له بها، أو أعلم من يعلمه بها، وأن إلخ...........

.النوع الثاني من الأيمان التي يحلف بها المسلمون: أيمان أهل البدع:

والذين منهم بهذه المملكة ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: الخوارج:
وهم قوم ممن كانوا مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حملوه على أن رضي بالتحكيم بينه وبين معاوية، وأشاروا بإقامة أبي موسى الأشعري حكماً عن علي، وإقامة عمر بن العاص حكماً عن معاوية، فخدع عمرو أبا موسى: بأن أتفق معه على أن يخلعا علياً ومعاوية جميعاً، ويقيم المسلمون لهم خليفة ويختارونه؛ فتقدم أبو موسى وأشهد من حضر أنه خلعهما، فوافق عمرو على خلع علي، ولم يخلع معاوية؛ وبفي الأمر لمعاوية؛ فأنكروا ذلك حينئذ، ورفضوا التحكيم، ومنعوا حكمه، وكفروا علياً ومعاوية ومن كان معهما بصفين، وقالوا: لا حكم إلا لله ورسوله، وخرجوا على علي، فسموا الخوارج، ثم فارقوه وذهبوا إلى النهروان فأقاموا هناك، وكانوا أربعة آلاف غوغاء لا رأس لهم؛ فذهب إليهم علي رضي الله عنه فقاتلهم، فلم يفلت منهم سوى تسعة أنفس: ذهب منهم اثنان إلى عمان، واثنان إلى كرمان، واثنان إلى سجستان، واثنان إلى الجزيرة وواحد إلى اليمن؛ فظهرت بدعتهم بتلك البلاد وبقيت بها.
ثم من مذهبهم منع التحكيم على ما تقدم، وتخطئة علي وأصحابه، ومعاوية وأصحابه بصفين في اعتمادهم إياه، بل تكفيرهم على ما تقدم؛ ومنها امتناع ذلك عن رضا أصلاً وأنهم يمنعون التأويل في كتاب الله تعالى. ومنهم من يقول: إن سورة يوسف عليه السلام ليست من القرآن، وإنما هي قصة من القصص، ومن أدخلها في القرآن فقد زاد فيه ما ليس منه، على ما سيأتي ذكره. ويقولون: إن إمارة بني أمية كانت ظلماً، وإن قضاءهم الذي رتبوه على التحكيم باطل. ويذهبون إلى تخطئة عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري فيما اتفقا عليه عند تحكيمهما؛ ويشنعون على معاوية وأصحابه، ويقولون: استباحوا الفروج والأموال بغير حق.
ثم منهم من يكفر بالكبائر، ومنهم ونشهد أن محمداً عبده ورسوله يكفر بالإصرار على الصغائر بخلاف الكبائر من غير إصرار على ما يأتي ذكره. ويصوبون فعلة عبد الرحمن بن ملجم في قتله علياً رضي الله عنه، وينكرون على من ينكر ذلك عليه، لا سيما من ذهب من الشيعة إلى أن ذلك كفر. وفي ذلك يقول شاعرهم:
يا ضربة من ولي ما أراد بها ** إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يوماً فأحسبه ** أوفى الخليفة عند الله ميزانا

وكذلك يصوبون فعل عمرو بن بكر الخارجي في قتل خارجة بن أبي حبيبة صاحب شرطة عمرو بن العاص بمصر، حين قتله على أنه عمرو بن العاص، لما لهم عنده من الإحن والضغائن، وأنهم يصوبون فعل قطام زوج عبد الرحمن بن ملجم في اشتراطها على ابن ملجم حين خطبها ثلاثة آلاف وعبداً وقينة وقتل علي، وأنهم يستعظمون خلع طاعة رؤوسهم، وأنهم يجوزون كون الإمام غير قرشي، بل هم يجوزون إمامة الحر والعبد جميعاً، وينسبون من خالفهم إلى الخطاء، ويستبيحون دماءهم بمقتضى ذلك.
واعلم أن ما تقدم ذكره من معتقدات الخوارج هو مقتضى ما رتبه من يمينهم في التعريف على ما سيأتي ذكره. على أن بعض هذه المعتقدات يختص بها بعض فرق الخوارج دون بعض على ما سيأتي بيانه، ولكل منهم معتقدات أخرى تزيد على ما تقدم ذكره.
وهأنا أذكر بعض فرقهم، وبعض ما اختصت به كل فرقة منهم، ليبني على ذلك من أراد ترتيب يمين لفرقة منهم: فمنهم المحكمة- وهم الذين يمنعون التحكيم.
ومنهم الأزارقة- وهم أتباع نافع بن الأزرق، وهم الذين خرجوا بفارس وكرمان أيلم ابن الزبير، وقاتلهم المهلب بن أبي صفرة، وهم الذين يكفرون علياً مع جمع من الصحابة، ويصوبون فعل ابن ملجم، ويكفرون القعدة عن القتال مع الإمام وإن قاتل أهل دينه، ويبيحون قتل أطفال المخالفين ونسائهم، ويسقطون الرجم عن الزاني المحصن، وحد القذف عن قاذف الرجل المحصن دون قاذف المرأة المحصنة، ويخرجون أصحاب الكبائر عن الإسلام، ويقولون: التقية غير جائزة.
ومنهم النجدات- وهم أصحاب نجدة بن عامر، يكفرون بالإصرار على الصغائر دون فعل الكبائر من غير إصرار، ويستحلون دماء أهل العهد والذمة وأموالهم في دار التقية، ويتبرأون ممن حرمها.
ومنهم البيهسية- وهم أصحاب أبي بيهس بن جابر، يرون أنه لا حرام إلا ما وقع عليه النص بقوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً} الآية. ويكفرون الرعية بكفر الإمام.
ومنهم العجاردة- وهم الذين ينكرون كون سورة يوسف من القرآن، ويقولون: إنما هي قصة من القصص، ويوجبون التبري من الطفل، فإذا بلغ دعي إلى الإسلام.
ومنهم الميمونية- وهم فرقة يقولون: إن الله تعالى يريد الخير دون الشر، ويجوزون نكاح بنات البنات وبنات أولاد الإخوة والأخوات.
ومنهم الإباضية- يرون أن مرتكب الكبيرة كافر للنعمة لا مشرك، ويرون أن دار مخالفيهم من المسلمين دار توحيد، ودار السلطان منهم دار بغي.
ومنهم الثعلبة- يرون ولاية الطفل حتى يظهر عليه إنكار الحق فيتبرأون منه.
ومنهم الصفرية- يرون أن ما كان من الكبائر فيه حد كالزنا لا يكفر به، وما كان منها ليس فيه حد: كترك الصلاة يكفر به.
وكأن الذي أورده في التعريف متفق عليه عندهم، أو هو قول أكثرهم فاكتفى به.
وقد رتب في التعريف تحليفهم على مقتضى ما ذكره من اعتقادهم فقال: وأيمانهم أيمان أهل السنة، ويزاد فيها: وإلا أجزت التحكيم، وصوبت قول الفريقين في صفين، وأطعت بالرضا مني حكم أهل الجور، وقال في كتاب الله بالتأويل، وأدخلت في القرآن ما ليس منه، وقلت: إن إمارة بني أمية عدل، وإن قضاءهم حق، وإن عمرو بن العاص أصاب، وإن أبا موسى ما أخطأ، واستبحت الأموال والفروج لغير حق، واجترحت الكبائر والصغائر، ولقيت الله مثقلاً بالأوزار، وقال: إن فعلة عبد الرحمن بن ملجم كفر، وإن قاتل خارجة آثم، وبرئت من فعلة قطام، وخلعت طاعة الرؤوس، وأنكرت أن تكون الخلافة إلا في قريش، وإلا فلا رويت سيفي ورمحي من دماء المخطئين.
الطائفة الثانية: الشيعة:
وهم الذين شايعوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقالوا بإمامته وخلافته: نصاً ووصاية، جلياً أو خفياً، وإن الإمامة لا تخرج عنه وعن بنيه إلا بظلم من غير ذلك الإمام، أو بتقية منه لغيره.
قال الشهرستاني في النحل والملل: ويجمعهم القول بوجوب التعيين للإمام والتنصيص عليه ممن قبله، وثبوت عصمة الأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر، والقول بالتولي للأئمة والتبري من غيرهم.
وقال فيه التعريف: يجمعهم حب علي رضي الله عنه، وتختلف فرقهم فيمن سواه.
فأما مع إجماعهم على حبه فهم مختلفون في اعتقادهم فيه، فمنهم أهل غلو مفرط وعتو زائد: ففيهم من أدى به الغلو إلى أن اتخذ علياً إلهاً وهم النصيرية- قال ومنهم من قال: إنه النبي المرسل وإن جبريل غلط، ومنهم من قال: إنه شريك في النبوة والرسالة، ومنهم من قال: إنه وصي النبوة بالنص الجلي، ثم تخالفوا في الإمامة بعدهوأجمعوا بعده على الحسن ثم الحسين؛ وقالت فرقت منهم: وبعدهما محمد بن الحنفية.
ثم قد ذكر فيه التعريف: أن الموجود من الشيعة في هذه المملكة خمس فرق:
الفرقة الأولى: الزيدية:
وهم القائلون بإمامة زيد بن علي بن الحسين السبط، ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وهو الذي رأسه مدفون بالمشهد الذي بين كيمان مصر، جنوبي الجامع الطولوني، المعروف بمشهد الرأس، فيما ذكره القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في خطط القاهرة. قال في التعريف: وأيمانهم أيمان أهل السنة، يعني فيحلفون كما تقدم، ويزاد فيها: وإلا برئت من معتقد زيد بن علي، ورأيت أن قولي في الأذان: حي على خير العمل بدعة، وخلعت طاعة الإمام المعصوم الواجب الطاعة، وادعيت أن المهدي المنتظر ليس من ولد الحسين بن علي، وقلت بتفضيل الشيخين على أمير المؤمنين علي وبنيه، وطعنت في رأي ابنه الحسن لما اقتضته المصلحة، وطعنت عليه فيه.
الفرقة الثانية من الشيعة: الإمامية:
وهم القائلون بإمامة اثني عشر إماماً: أولهم أمير المؤمنين علي المرتضى، ثم ابنه الحسن المجتبى، ثم أخوه الحسين شهيد كربلاء ثم ابنه علي السجاد زين العابدين، ثم ابنه محمد الباقر، ثم ابنه جعفر الصادق، ثم ابنه الكاظم، ثم ابنه علي الرضا وهو الذي عهد إليه المأمون بالخلافة ومات قبل أن يموت المأمون، ثم ابنه محمد التقي، ثم ابنه علي النقي، ثم ابنه الحسن الزكي المعروف بالعسكري، ثم ابنه محمد الحجة، وهو المهدي المنتظر عندهم، يقولون إنه دخل مع أمه صغيراً سرداباً بالحلة على القرب من بغداد ففقد ولم يعد، فهم ينتظرونه إلى الآن، ويقال: إنهم في كل ليلة يقفون عند باب السرداب ببغلة مشدودة ملجمة من الغروب إلى مغيب الشفق ينادون: أيها الإمام! قد كثر الظلم! وظهر الجور فاخرج إلينا! ثم يرجعون إلى الليلة الأخرى، وتلقب هذه الفرقة بالاثني عشرية أيضاً، لقولهم بإمامة اثني عشر إماماً، وبالموسوية لقولهم بانتقال الخلافة بعد جعفر الصادق إلى ابنه موسى الكاظم المقدم ذكره دون أخيه إسماعيل إمام الإسماعيلية الآتي ذكره، وبالقطعية لقولهم بموت إسماعيل المذكور في حياة أبيه الصادق والقطع بانتقال الإمامة إلى موسى.
قال في التعريف: وهم مسلمون، إلا أنهم أهل بدعة كبيرة سبابة.
وهم يقولون: بإمامة علي رضي الله عنه نصاً ظاهراً، وتعييناً صادقاً، احتجاجاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يبايعني على ماله، فبايعه جماعة، ثم قال: من يبايعني على روحه وهو وصيي وولي هذا الأمر من بعدي، فلم يبايعه أحد، حتى مد أمير المؤمنين علي عليه السلام يده إليه فبايعه على روحه ووفى بذلك.
قال في العبر: وهذه الوصية لا تعرف عن أحد من أهل الأثر، بل هي من موضوعاتهم؛ ويخصونه بوراثة علم النبي صلى الله عليه وسلم.
ويرون أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والي من والاه، وعادي من عاداه، وأدر الحق على لسانه كيفما دار، ويرون أن بيعة الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة غير صحيحة: حين اجتمع الأنصار بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم على سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ليبايعوه، وذهب إليهم أبو بكر رضي الله عنه ومه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة، وروى لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يصلح هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش» فرجعوا إلى قوله وبايعه عمر، ثم بايعه الناس على ما تقدم ذكره في الكلام على مبايعات الخلفاء في المقالة الخامسة، وأن القائم فيها مجترم لا سيما أول باد بذلك. ويقولون: إن الحق كان في ذلك لعلي بالوصية. ويقولون: إن القيام على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وحصره في الدار كان واجباً لاعتاقدهم عدم صحة خلافته مع وجود علي رضي الله عنه، وإن المتأخر عن حصره كان مخطئاً. ويرون جواز التقية خوفاً على النفس، وأن علياً رضي الله عنه إنما تأخر عن طلب الإمامة عند قيام من كان قبله بها تقية على نفسه. ويرون أن من أعان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الخلافة كان مخطئاً: لبطلان خلافته بترتبها على خلافة أبي بكر ووجود علي الذي هو أحق بها. ويزعمون أن الصديق رضي الله عنه منع فاطمة رضي الله عنها حقها من إرثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم تعدياً، وأن من ساعد في تقديم تيم بخلافة أبي بكر، أو تقديم عدي بخلافة عمر، أو تقديم أمية بخلافة عثمان كان مخطئاً. ويزعمون أن عمر رضي الله عنه لم يصب في جعل الأمر شورى بين بقية العشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لاستحقاق تقدم علي على الجميع.
ويصبون قول حسان بن ثابت رضي الله عنه فيما كان من موافقته في حديث الإفك في حق عائشة رضي الله عنها، ولا يرون تكذيبه في ذلك. ويرون أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كانت مخطئة في قيامها على علي يوم الجمل، وأن من قام معها كان مخطئاً للموافقة على الخطإ.
ويقولون إن من قام مع معاوية على علي بصفين وشهر السيف معه عليه فقد ارتكب محظوراً، وينكرون ما وقع من زياد بن أبيه من الدعوى الباطلة؛ وذلك أنه بعد قتل الحسين عليه السلام جهز جيشاً إلى المدينة النبوية مع مسلم بن عبد الله فقتلوا وسبوا وبايعوا من تبعهم على أنهم خول ليزيد.
ويقولون ببطلان حكم ابن مرجانة، ويعدون من العظائم قيام عمر بن سعد في قتال الحسين؛ وحقيق أن ينكروا عليه ذلك ويستعظموه! فقد قيل: إنه بعد قتله أمر جماعة فوطئوا صدر الحسين وظهره بالخيل، وكان يزيد قاتله الله قد أمره بذلك.
ويرون أن الأمر صار بعد الحسن عليه السلام إلى أخيه الحسين، ويقولون إن الإمامة عند الحسن مستودعة لا مستقرة، ولذلك لم تثبت في بنيه. ويعدون من العظائم فعل شمر بن ذي الجوشن: وهو الذي احتز رأس الحسين، وأن من ساعده على ذلك مرتكب أعظم محظورات بأشد بلية، وحقيق ذلك أن يستعظموه! فأي جريمة أعظم من قتل سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
وقد ذكر صاحب نظم السمط في خبر السبط: أنه وجد في حجر مكتوب قبل البعثة بألف سنة ما صورته:
أترجو أمة قتلت حسيناً ** شفاعة جده يوم الحساب؟

ويقال إن الذي احتز رأس الحسين إنما هو سنان بن أنس النخعي. ويعدون من العظائم أيضاً سبي معاوية أهل البيت عند غلبة علي رضي الله عنه بصفين وسوقهم معه إلى دمشق سوقاً بالعصي، ويرون أن خلافة يزيد بن معاوية كانت من أعظم البلايا، وأن المغيرة بن شعبة أخطأ حيث أشار على معاوية بها، ويقولون بالتبري من عمرو بم العاص رضي الله عنه لانتمائه إلى معاوية، وخديعته أبا موسى الأشعري يوم الحكمين حتى خلع علياً، وإن من ظاهره أو عاضده كان مخطئاً.
وكذلك يتبرؤون من بسر بن أبي أرطاة: لأن معاوية بعثه إلى الحجاز في عسكر فدخل المدينة وسفك بها الدماء، واستكره الناس على البيعة لمعاوية، وتوجه إلى اليمن بعد ذلك فوجد صبيين لعبيد الله بن عباس عامل علي على اليمن فقتلهما.
ويرون تخطئة عقبة بن عبد الله المري، ويقدحون في رأي الخوارج: وهم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بعد حرب صفين، على ما تقدم ذكره في الكلام على أيمان الخوارج: وهو مفارقتهم علياً رضي الله عنه، وتخطئتهم له في الغنائم.
ويقولون: إن الإمامة انتقلت بعد الحسين إلى ابنه زين العابدين، ثم إلى ابنه محمد الباقر، ثم إلى ابن جعفر الصادق، ثم إلى ابنه موسى الكاظم، ثم إلى ابنه علي الرضا، ثم إلى ابنه محمد التقي، ثم إلى ابنه علي النقي، ثم إلى ابنه الحسن الزكي، ثم إلى ابنه محمد الحجة، وهو المهدي المنتظر عندهم، على ما تقدم ذكره في أول الكلام على هذه الفرقة، وإن من خالف ذلك فقد خالف الصواب.
ويستعظمون دلالة من دل بني أمية وبني العباس على مقاتل أهل البيت. أما دلالة بني أمية، فبعد غلبة معاوية بصفين. وأما دلالة بني العباس، فبعد تنازع بني العباس وأهل البيت في طلب الخلافة، زمن أبي جعفر المنصور وما بعده.
ويقولون: ببقاء حكم المتعة: وهي النكاح المؤقت الذي كان في صدر الإسلام. ويشنعون على نجدة بني عامر الحنفي الخارجي حيث زاد في حد الخمر، وغلظ فيه تغليظاً شديداً، كما حكاه الشهرستاني عنهم.
ويستعظمون البراءة من شيعة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، واتباع أهوية أهل الشام من متابعي بني أمية والغوغاء القائمين بالنهروان: وهم الخوارج الذين خالفوا علياً بعد قضية التحكيم بصفين، وأقاموا بالنهروان من العراق لقتال علي، ورئيسهم يومئذ عبد الله بن وهب، فسار إليهم علي وكانوا أربعة آلاف فقتلوا عن آخرهم، ولم يقتل من أصحاب علي سوى سبعة أنفس.
ويرون أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه أخطأ في موافقته عمرو بن العاص رضي الله عنه: حيث حكم بخلع علي ولم يخلع عمرو معاوية.
ويعتمدون في القرآن الكريم على مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، دون المصحف الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم، فلا يثبتون ما لم يثبت فيه قرآناً.
ويتبرأون من فعل ابن ملجم في قتله أمير المؤمنين رضي الله عنه، وحق لهم التبري من ذلك.
ويرون أن موالاة ابن ملجم وإسعافه في صداق زوجته قطام جريرة.
ويرون محبة قبيلة همدان من المحبوب المطلوب: لمشايعتهم علياً رضي الله عنه ومحبتهم أهل البيت كما هو المشهور عنهم؛ حتى يحكى أن أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه صعد يوماً المنبر وقال: ألا لا ينكحن أحد منكم الحسن بن علي فإنه مطلاق، فنهض رجل من همدان وقال: والله لننكحنه ثم لننكحنه! إن أمهر أمهر كثيفاً، وإن أولد أولد شريفاً!. فقال علي رضي الله عنه حينئذ:
لو كنت بواباً على باب جنة ** لقلت لهمدان ادخلي بسلام!

ويقولون باشتراط العصمة في الأئمة، فلا يكون من ليس بمعصوم عندهم إماماً.
وقد رتب في التعريف يمينهم على هذه العقائد، فقال: وهؤلاء يمينهم هي: إنني والله والله والله العظيم، الرب الواحد الأحد، الفرد الصمد، وما أعتقده من صدق محمد صلى الله عليه وسلم ونصه على إمامة ابن عمه ووارث علمه علي ابن أبي طالب رضي الله عنه يوم غدير خم، وقوله: «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والي من والاه! وعاد من عاداه! وأدر الحق على لسانه كيفما دار!» وإلا كنت مع أول قائم يوم السقيفة وآخر متأخر يوم الدار، ولم أقل بجواز التقية خوفاً على النفس، وأعنت ابن الخطاب، واضطهدت فاطمة، ومنعتها حقها من الإرث، وساعدت في تقديم تيم وعدي وأمية، ورضيت بحكم الشورى، وكذبت حسان بن ثابت يوم عائشة، وقمت معها يوم الجمل، وشهرت السيف مع معاوية يوم صفين، وصدقت دعوى زياد، ونزلت على حكم ابن مرجانة، وكنت مع عمر بن سعد في قتال الحسين، وقلت: إن الأمر لم يصر بعد الحسن إلى الحسين، وساعدت شمر بن ذي الجوشن على فعل تلك البلية، وسبيت أهل البيت وسقتهم بالعصي إلى دمشق، ورضيت بإمالة يزيد، وأطعت المغير بن شعبة، وكنت ظهيراً لعمرو بن العاص، ثم لبسر بن أبي أرطاة، وفعلت فعل عقبة بن عبد الله المري وصدقت رأي الخوارج، وقلت: إن الأمر لم ينتقل بعد الحسين بن علي في أبنائه إلى تمام الأئمة، إلى الإمام المهدي المنتظر، ودللت على مقاتل أهل البيت بني أمية وبني العباس، وأبطلت حكم التمتع، وزدت في حد الخمر ما لم يكن، وحرمت بيع أمهات الأولاد، وقلت برأيي في الدين، وبرئت من شيعة أمير المؤمنين، وكنت مع هوى أهل الشام والغوغاء القائمة بالنهروان، واتبعت خطأ أبي موسى وأدخلت في القرآن ما لم يثبته ابن مسعود، وشركت ابن ملجم وأسعدته في صداق قطام، وبرئت من محبة همدان، ولم أقل باشتراط العصمة في الإمام، ودخلت مع أهل النصب الظلام.
قلت: قد ذكر في التعريف فرقة الإمامية هذه من الشيعة الذين بهذه المملكة، ولم أعلم أين مكانهم منها.
الفرقة الثالثة: الإسماعيلية:
وهم القائلون بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق، وأن الأمامة انتقلت بعد أبيه دون أخيه موسى الكاظم المقدم ذكره في الكلام على فرقة الإمامية، وهم يوافقون الإمامية المقدم ذكرهم في سوق الإمامة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى جعفر الصادق، ثم يعدلون عن موسى الكاظم الذي هو الإمام عند الإمامية إلى إسماعيل هذا، ثم يسوقونها في بني، فيقولون: إن الإمامة انتقلت بعد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى ابنه الحسن، ثم إلى أخيه الحسين، ثم إلى ابنه علي زين العابدين، ثم إلى ابنه محمد الباقر، ثم إلى ابنه جعفر الصادق، ثم إلى ابنه إسماعيل- الذي تنسب إليه هذه الفرقة- بالنص من أبيه. فمن قائل: إن أباه مات قبله، وانتقلت الإمامة إليه بموته. ومن قائل: إنه مات قبل أبيه. وفائدة النص ثبوتها في بنيه بعده. ثم يقولون: إنها انتقلت من إسماعيل المذكور إلى ابنه محمد المكتوم، ثم إلى ابنه جعفر الصدق، ثم إلى ابنه محمد الحبيب ثم إلى ابنه عبيد الله المهدي أول خلفاء الفاطميين ببلاد المغرب، وهو جد الخلفاء الفاطميين بمصر، ثم إلى ابنه القائم بأمر الله أبي القاسم محمد: ثاني خلفاء الفاطميين ببلاد المغرب، ثم إلى ابنه المنصور بالله أبي الطاهر إسماعيل: ثالث خلفاء الفاطميين ببلاد المغرب، ثم إلى ابنه المعز لدين الله أبي تميم معد: أول خلفاء الفاطميين بمصر بعد قيامه ببلاد المغرب وهو باني القاهرة، ثم إلى ابنه العزيز بالله أبي المنصور نزار: ثاني خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الحاكم بأمر الله أبي علي المنصور: ثالث خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن علي: رابع خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه المستنصر بالله أبي تميم معد: خامس خلفائهم بمصر.
ثم من هاهنا افترقت الإسماعيلية إلى فرقتين: مستعلوية ونزارية.
فأما المستعلوية فيقولون: إن الإمامة انتقلت بعد المستنصر بالله المقدم ذكره إلى ابنه المستعلي بالله، أبي القاسم أحمد: سادس خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الآمر بأحكام الله أبي علي المنصور: سابع خلفائهم بمصر؛ ثم إلى ابنه الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد بن أبي القاسم: ثامن خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الظافر بأمر الله أبي المنصور إسماعيل، تاسع خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الفائز بنصر الله أبي القاسم عيسى بن الظافر: عاشر خلفائهم بمصر، ثم إلى العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ: حادي عشر خلفائهم بمصر، وهو آخرهم حتى مات.
وأما النزارية فإنهم يقولون إن الإمامة انتقلت بعد المستنصر إلى ابنه نزار بالنص من أبيه دون ابنه المستعلي؛ ويستندون بذلك إلى أن الحسن بن الصباح كان من تلامذة أحمد بن عطاش صاحب قلعة أصبهان وألموت، وكان شهماً عالماً بالتعاليم والنجوم والسحر، فاتهمه ابن عطاش بالدعوة للفاطميين خلفاء مصر، فخاف وهرب منه إلى مصر في خلافة المستنصر المقدم ذكره، فأكرمه وأمره بدعاية الناس إلى إمامته، فقال له ابن الصباح: من الإمام بعدك؟ فقال له: ابني نزار، فعاد ابن الصباح من مصر إلى الشام والجزيرة وديار بكر وبلاد الروم، ودخل خراسان، وعبر إلى ما وراء النهر، وهو يدعو إلى إمامة المستنصر وابنه نزار بعده. قال الشهرستاني في الملل والنحل: وصعد قلعة الموت في شعبان سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة واستظهر وتحصن.
ثم النزارية يزعمون أن نزاراً المذكور خرج من الإسكندرية حملاً في بطن جارية، تقية على نفسه، وخاض بلاد الأعداء حتى صار إلى ألموت. ورأيت في المغرب لابن سعيد أنه إنما صار من عقبه من وصل إلى تلك البلاد، وصارت الإمامة في بنيه هناك.
والمستعلوية ينكرون ذلك إنكاراً، ويقولون: إنه قتل بالإسكندرية: سار إليه الأفضل بن أمير الجيوش وزير المستعلي وحاصره بالإسكندرية، ثم ظفر به وأتى به إلى المستعلي، فبنى على حائطين فمات، ثم فر بعض بني نزار إلى بلاد مشارق أفريقية وأقام بالمغرب، والقائمون بها الآن من ولده، وهو الذي تشهد به كتب التواريخ: كمغرب ابن سعيد وغيره.
ثم الإسماعيلية في الجملة: من المستعلوية والنزارية يسمون أنفسهم أصحاب الدعوة الهادية، تبعاً لإمامهم إسماعيل المذكور، فإنه كان يسمى صاحب الدعوة الهادية.
قال في التعريف: وهم وإن أظهروا الإسلام وقالوا بقول الإمامية، ثم خالفوهم في موسى الكاظم وقالوا: إن الإمامة لم تصر إلى أخيه إسماعيل فإنهم طائفة كافرة يعتقدون التناسخ والحلول.
وذكر في مسالك الأبصار: أن ملخص معتقدهم التناسخ. ثم قال: ولقد سألت المقدم عليهم والمشار إليه فيهم: وهو مبارك بن علوان عن معتقدهم وجاذبته الحديث في ذلك مراراً، فظهر لي منه أنهم يرون أن الأرواح مسجونة في هذه الأجسام المكلفة بطاعة الإمام المطهر على زعمهم؛ فإذا انتقلت على الطاعة كانت قد تخلصت وانتقلت للأنوار العلوية، وإن انتقلت على العصيان هوت في الظلمات السفلية.
وذكر في العبر: أن منهم من يدعي ألوهية الإمام بنوع الحلول، ومنهم من يدعي رجعة من مات من الأئمة بنوع التناسخ والرجعة، ومنهم من ينتظر مجيء من يقطع بموته، ومنهم من ينتظر عود الأمر إلى أهل البيت.
ثم المستعلوية والنزارية يتفقون في بعض المعتقدات ويختلفون في بعضها.
فأما ما يتفقون عليه من الاعتقاد فهم يتفقون على أنهم لابد من إمام معصوم: ظاهر أو مستور. فالأئمة الظاهرون هم الذين يظهرون أنفسهم ويدعون الناس إلى إمامتهم، والمستورون هم الذين يستترون ويظهرون دعاتهم. وآخر الظاهرين عندهم إسماعيل الذي ينسبون إليه، وأول المستورين ابنه المكتوم. ومن معتقدهم أن مات ولم يعرف إمام زمانه أو لم يكن في عنقه بيعة إمام، مات ميتة جاهلية، ويرون أن العلم لا يكون إلا بالتعليم من الأئمة خاصة، وأن الأئمة هم هداة الناس؛ ويقولون: إن للأئمة أدواراً في كل دور منها سبعة أئمة: ظاهرين أو مستورين. فإن كان أهل الدور ظاهرين يسمى ذلك الدور دور الكشف، وإن كانوا مستورين يسمى دور الستر. ويقولون بوجوب موالاة أهل البيت، ويتبرأون ممن خالفهم، وينسبونهم إلى الأخذ بالباطل، والوقوع في الضلال، لا سيما النواصب، وهم الطائفة المعروفة بالناصبية أتباع.........، ويرمونهم بالعظائم، وينسبونهم إلى اعتماد المحال والأخذ به. ومن خرج عندهم عن القول بانتقال الإمامة بعد الحسن السبط عليه السلام، ثم أخيه الحسين، ثم في أئمتهم المتقدم ذكرهم، إلى إمامهم إسماعيل الذين ينسبون إليه بالنص الجلي، فقد حاد عن الحق. وهم يعظمون......... ويستعظمون القدح فيه، وأن من وقع في ذلك فقد ارتكب خطأً كبيراً.
ولدعاة الأئمة المستورين عندهم من المكانة وعلو الرتبة الرتبة العظمى، لا سيما الداعي القائم بذلك أولاً: وهو الداعي إلى محمد المكتوم أول أئمتهم المستورين على ما تقدم ذكره، فإن له من الرتبة عندهم فوق ما لغيره من الدعاة القائمين بعده.
ومما اشتهر من أمر الدعاة لأئمتهم المستورين أنه كان ممن ينسب إلى التشيع رجل اسمه رمضان، ويقال: إنه صاحب كتاب الميزان في نصرة الزندقة، فولد له ولد يقال له: ميمون، نشأ على أهبة في التشيع والعلم بأسرار الدعاء لأهل البيت، ثم نشأ لميمون ولد يقال له: عبد الله، وكان يعالج العيون ويقدحها، فسمي القداح، واطلع على أسرار الدعوة من أبيه، وسار من نواحي كرخ وأصبهان إلى الأهواز والبصرة وسلمية من أرض الشام يدعو الناس إلى أهل البيت، ثم مات ونشأ له ولد يسمى أحمد فقام أبيه عبد الله القداح في الدعوة، وصحبه رجل يقال له رستم بن الحسين بن حوشب النجار من أهل الكوفة، فأرسله أحمد إلى اليمن، فدعا الشيعة باليمن إلى عبد الله المهدي فأجأبوه، وكان أبو عبد الله الشيعي من أهل صنعاء من اليمن، وقيل من أهل الكوفة، يصحب ابن حوشب، فحظي عنده وبعثه إلى المغرب. ومن نسب أحداً من هذه الدعاة إلى ارتكاب محظور أو احتقاب إثم فقد ضل وخرج عن جادة الصواب عندهم. ويرون تخطئة من مالاً على الإمام عبيد الله المهدي: أول أئمتهم القائمين ببلاد الغرب على ما تقدم، وارتكابه المحظور وضلاله عن طريق الحق؛ وكذلك من خذل الناس عن اتباع القائم بأمر الله بن عبيد الله المهدي، ثاني خلفائهم ببلاد المغرب، أو نقض الدولة على المعز لدين الله: أول خلفائهم بمصر؛ ويرون ذلك من أعظم وأكبر الكبائر.
ومن أعيادهم العظيمة الخطر عندهم يوم غدير خم بفتح الغين المعجمة وكسر الدال المهملة وسكون المثناة تحت وراء مهملة في الآخر، ثم خاء معجمة مضمومة بعدها ميم: وهو غيضة بين مكة والمدينة على ثلاثة أيام من الجحفة. وسبب جعلهم له عيداً أنهم يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل فيه ذات يوم فقال لعلي رضي الله عنه: «اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل منخذله، وأدر الحق معه حيث دار» على ما تقدم نحوه في الكلام على يمين الإمامية.
وقد كان للخلفاء الفاطميين بمصر بهذا العيد اهتمام عظيم، ويكتبون بالبشارة بعيد الفطر به إلى أعمالهم، كما يكتبون بالبشارة بعيد الفطر وعيد النحر ونحوهما. ويعتقدون في أئمتهم أنهم يعلمون ما يكون من الأمور الحادثة.
وقد ذكر المؤرخون عن عبيد الله المهدي جد الخلفاء الفاطميين بمصر أنه حين بنى المهدية بمشارق أفريقية من بلاد المغرب طلع على سورها ورمى بسهم وقال: إلى حد هذه الرمية ينتهي صاحب الحمار؛ فخرج بالمغرب خارجي يعرف بأبي يزيد صاحب الحمار، وقصد المهدية حتى انتهى إلى حد تلك الرمية، فرجع ولم يصل المهدية.
وكان الحاكم بأمر الله أحد خلفاء مصر من عقب المهدي المذكور يدعي علم الغيب على المنبر بالجامع المعروف به على القرب من باب الفتوح بالقاهرة، فكتبوا له بطاقة فيها:
بالظلم والجور قد رضينا ** وليس بالكفر والحماقه

إن كنت أوتيت علم الغيب ** بين لنا كاتب البطاقه

فترك ما كان يقوله ولم يعد إليه {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون}.
وهم يقدحون في عياش بن أبي الفتوح الصنهاجي، وزير الظافر: أحد الخلفاء الفاطميين بمصر. وذلك أنه كان له ولد حسن الصورة اسمه نصر، فأحبه الظافر المذكور حتى كان يأتي ليلاً إلى بيته، فرمى عياش الظافر بابنه، وأمره أن يستدعيه فاستدعاه، فأتى إليه ليلة على العادة، فاجتمع عياش بن السلار هو وابنه نصر على الظافر وقتلاه، وهربا إلى الشام، فأسرهما الفرنج، ثم فدي ابنه وصلب على باب زويلة.
وهم يقدحون في عياش المذكور ويرمونه بالنفاق بسبب ما وقع منه في حق الظافر من رميه بابنه وقتله إياه.
قلت: وعياش هذا هو الذي أشار إليه في التعريف في صورة يمين الإسماعيلية بابن السلار. وهو وهم منه، إذ ليس عياش بابن السلار، وإنما ابن السلار هو زوج أم عياش المذكور، وكان قد وزر للظافر المذكور قبل ربيبه عياش وتلقب بالعادل، واستولى على الأمر حتى لم يكن للظافر معه كلام، ثم دس عليه ربيبه عياش من قتله، ووزر للظافر بعده. فابن السلار هو العادل وزير الظافر أولاً لا عياش ربيبه.
ومن أكبر الكبائر عندهم وأعظم العظائم أن يرمى أحد من أهل آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لا سيما الأئمة بكبيرة، أو ينسبها أحد إليهم، أو يوالي لهم عدواً أو يعادي ولياً.
وأما ما يختص به المستعلوية، فإنهم ينكرون إمامة نزار بن المستنصر المقدم ذكره، ويكذبون النزارية في قولهم: إن نزاراً خرج حملاً في بطن جارية حتى صار إلى بلاد الشرق. ويقولون: إنه مات بالإسكندرية ميتة ظاهرة. ويقولون: إنه نازع الحق أهله وجاذب الخلافة ربها من حيث إن الحق في الإمامة والخلافة كان لإمامهم المستعلي بالله فادعاه لنفسه. ويقولون: إن شيعته على الباطل، وموافقتهم في اعتقادهم إمامته خطأ. ويرون من الضلال اتباع الحسن بن الصباح داعية نزار والناقل عن المستنصر النص على إمامته، ويرون الكون في جملة النزارية من أعظم الأضاليل، لا سيما من كان فيهم آخر أدوار الأئمة التي هي في كل دور سبعة أئمة، على ما يقدم ذكره في صدر الكلام على أصل معتقد هذه الفرقة.
ثم هم يعظمون راشد الدين سنان: وهو رجل كان بقلاع الدعوة بإعمال طرابلس من البلاد الشامية في زمن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، انتهت رياستهم إليه. قال في مسالك الأبصار: وكان رجلاً صاحب سيميا، فأراهم بها ما أضل به عقولهم: من تخييل أشخاص من مات منهم على طاعة أئمتهم في جنات النعيم، وأشخاص من مات منهم على عصيان أئمتهم في النار والجحيم؛ فثبت ذلك عندهم واعتقدوه حقاُ. ومن قدح في ذلك فقد دخل في أهل الضلال. ويقدحون في ابن السلار المقدم ذكره ويسفهون رأيه فيما كان منه: من إزالة الخطبة للفاطميين وحط رايتهم الصفراء والخطبة لبني العباس ورفع رايتهم السوداء، وما كان منه من الفعلة التي استولى بها على قصر الفاطميين ومن فيه، وأخذ أموالهم بعد موت العاضد.
وأما ما يختص به النزارية، فإنهم يقولون: إن الأمر صار إلى نزار بعد أبيه المستنصر على ما تقدم ذكره، وإن من جحد إمامته فقد أخطأ، ويزعمون أنه خرج من الإسكندرية حملاً في بطن أمة وخاض بلاد أعدائه الذين هم المستعلوية بمصر حتى صار إلى بلاد الشرق. ويقولون: إن الاسم يغير الصورة بمعنى؛ ويرون أن الطعن على الحسن بن الصباح المقدم ذكره فيما نقله عن المستنصر من قوله: الإمامة بعدي في ولدي نزار، من أعظم الآثام، ويعظمون علاء الدين صاحب قلعة ألموت؛ وهي قلعة بالطالقان بناها السلطان ملكشاه السلجوقي؛ وذلك أنه أرسل عقاباً فبرز في مكانها؛ فلما وافى مكانها بنى فيه هذه القلعة وسماها ألموت، ومعناه تعليم العقاب.
وعلاء الدين هذا هو ابن جلال الدين الحسن الملقب بإلكيا، وهو من عقب الحسن بن الصباح المقدم ذكره، وكان أبوه جلال الدين قد أظهر شعائر الإسلام، وكتب بذلك إلى سائر بلاد الإسماعيلية بالعجم والشام فأقيمت فيها، ثم توفي بقلعة ألموت المذكورة في سنة ثمان عشرة وستمائة، فاستولى ابنه علاء الدين هذا على قلعة ألموت المذكورة، وخالف رأي أبيه المذكور إلى مذهب النزارية، وصار رأساً من رؤوسهم؛ والتبري منه عندهم من أشد الخطأ.
واعلم أن أصل هذه الفرقة كانت بالبحرين في المائة الثانية وما بعدها، ومنهم كانت القرامطة الذين خرجوا من البحرين حينئذ، نسبة إلى رجل منهم اسمه قرمط، خرج فيهم وادعى النبوة وأنه أنزل كتاب؛ ثم ظهروا بالمشرق بأصبهان: في أيام السلطان ملكشاه السلجوقي، واشتهروا هناك بالباطنية: لأنهم يبطنون خلاف ما يظهرون، وبالملاحدة: لأن مذهبهم كله إلحاد؛ ثم صاروا إلى الشام، ونزلوا فيما حول طرابلس، وأظهروا دعوتهم هناك، وإليهم تنسب قلاع الإسماعيلية المعروفة بقلاع الدعوة، فيما حول طرابلس، كمصياف، والخوابي، والقدموس، وغيرها.
ولما افترقوا إلى مستعلوية ونزارية كما تقدم، أخذ من منهم ببلاد المشرق بمذهب النزارية، عملاً بدعوة ابن الصباح المقدم ذكره، وأخذ من منهم بالشام بقلاع الإسماعيلية بمذهب المستعلوية، وصاروا شيعة لمن بعد المستعلي من خلفاء الفاطميين بمصر، واشتهروا باسم الفداوية، ووثبوا على السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بالشام مرات وهو راكب ليقتلوه فلم يتمكنوا منه. ثم صالحهم بعد ذلك على قلاعهم بأعمال طرابلس في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة؛ ثم انتموا إلى ملوك مصر في أيام الظاهر بيبرس، واشتهروا باسم الفداوية لمفاداتهم بالمال على من يقتلونه.
وقد ذكر في مسالك الأبصار نقلاً عن مقدمهم: مبارك بن علوان: أن كل من ملك مصر كان مظهراً لهم. ولذلك يرون إتلاف نفوسهم في طاعته: لما ينتقلون إليه من النعيم الأكبر في زعمهم. ورأيت نحو ذلك في أساس السياسة لابن ظافر؛ وذكر أنهم يرون أن ملوك مصر كالنواب لأئمتهم: لقيامهم مقامهم.
أما أيمانهم التي يحلفون بها فقد قال فيه التعريف جرياً على معتقدهم المتقدم: إن اليمين الجامع لهم أن يقول: إنني والله والله الواحد الأحد، الفرد الصمد، القادر القاهر، الذي لا إله إلا هو، وحق أئمة الحق، وهداة الخلق، علياً وبنيه أئمة الظهور والخفاء، وإلا برئت من صحيح الولاء، وصدقت أهل الأباطيل، وقمت مع فرقة الضلال، وانتصبت مع النواصب في تقرير المحال، ولم أقل بانتقال الإمامة إلى السيد الحسين، ثم إلى بنيه بالنص الجلي، موصولة إلى جعفر الصادق، ثم إلى ابنه إسماعيل صاحب الدعوة الهادية، والأثرة الباقية، وإلا قدحت في القداح، وأثمت الداعي الأول، وسعيت في اختلاف الناس عليه، ومالأت على السيد المهدي، وخذلت الناس عن القائم، ونقضت الدولة على المعز، وأنكرت أن يوم غدير خم لا يعد في الأعياد، وقلت: أن لا علم للأئمة بما يكون، وخالفت من ادعى لهم العلم بالحدثان، ورميت آل بيت محمد بالعظائم، وقلت فيهم بالكبائر، وواليت أعدائهم، وعاديت أولياءهم قال: ثم من هنا تزاد النزارية: وإلا فجحدت أن يكون الأمر صار إلى نزار وأنه أتى حملاً في بطن جارية لخوفه خوض بلاد الأعداء، وأن الإسم لم يغير الصورة، وإلا طعنت على الحسن ابن الصباح، وبرئت من المولى علاء الدين صاحب الألموت، ومن ناصر الدين سنان الملقب براشد الدين، وكنت أول المعتدين؛ وقلت: أن ما رووه كان من الأباطيل، ودخلت في أهل الفرية والأضاليل.
قال: وأما من سواهم من الإسماعيلية المنكرين لإمامة نزار، فيقال لهم عوض هذا: وإلا قلت: إن الأمر صار إلى نزار، وصدقت القائلين أنه خرج حملاً في بطن جارية، وأنكرت ميتته الظاهرة بالإسكندرية، وادعيت أنه لم ينازع الحق أهله، ويجاذب الخلافة ربها، ووافقت شيعته، وتبعت الحسن بن صباح، وكنت في النزارية آخر الأدوار.
قال: ثم يجمعهم آخر اليمين أن يقالوا: وإلا قلت مقالة ابن السلار في النفاق وسددت رأي ابن أيوب، وألقيت بيدي الراية الصفراء، ورفعت السوداء، وفعلت في أهل القصر تلك الفعال، وتمحلت مثل ذلك المحال.
قلت: ما ذكره في التعريف فيما تزاده النزارية: ومن ناصر الدين سنان الملقب براشد الدين وهم: فإن المذكور إنما هو من إسماعيلية الشام الذين هم شيعة المستعلوية لا من الإسماعيلية النزارية الذين هم ببلاد المشرق، على ما تقدم بيانه. فكان من حقه أن يلحق ذلك بيمين من سواهم من الإسماعيلية الذين هم المستعلوية وكذلك قوله: ثم يجمعهم آخر اليمين أن يقال: وإلا قلت مقالة ابن السلار في النفاق، وسددت رأي ابن أيوب إلى آخره، فإن ذلك مما يختص بالمستعلوية، لأن ابن السلار كان وزير الظافر كما تقدم، والظافر من جملة الخلفاء القائمين بمصر بعد المستعلي، الذين خالفت النزارية في إمامتهم. وكذلك قضية ابن أيوب إنما كانت مع العاضد آخر خلفائهم بمصر؛ وكل ذلك مختص بإسماعيلية الشام الذين هم شيعة المستعلوية دون النزارية، وحينئذ فكان من حقه أن يقتصر في زيادة يمين النزارية على آخر وبرئت من المولى علاء الدين صاحب ألموت ناصر الدين سنان الملقب براشد الدين، وكنت أول المعتدين، وقلت إنما رآه كان من الأباطيل، ودخلت في أهل الفرية والأضاليل ثم يقول بعد ذلك: وإلا قلت مقالة ابن السلار في النفاق، وسددت رأي ابن أيوب، وألقيت بيدي الراية الصفراء، ورفعت السوداء، وفعلت في أهل القصر تلك الفعال، وتمحلت مثل ذلك المحال.
الفرقة الرابعة من الشيعة: الدرزية:
قال في التعريف: وهم أتباع أبي محمد الدرزي. قال في التعريف: وكان من أهل موالاة الحاكم أبي علي المنصور بن العزيز خليفة مصر. قال: وكانوا أولاً من الإسماعيلية، ثم خرجوا عن كل ما تمحلوه، وهدموا كل ما أثلوه، وهم يقولون برجعة الحاكم، وأن الألوهية انتهت إليه وتدبرت ناسوته، وهو يغيب ويظهر بهيئته ويقتل أعداءه قتل إبادة لا معاد بعده، بل ينكرون المعاد من حيث هو، ويقولون نحو قول الطبائعية: إن الطبائع هي المولدة، والموت بفناء الحرارة الغريزية، كانطفاء السراج بفناء الزيت إلا من اعتبط، ويقولون: دهر دائم، وعالم قائم؛ أرحام تدفع، وأرض تبلع؛ بعد أن ذكر أنهم يستبيحون فروج المحارم وسائر الفروج المحرمة، وأنهم أشد كفراً ونفاقاً من النصيرية الآتي ذكرهم، وأبعد من كل خير وأقرب إلى كل شر.
ثم قال: وأصل هذه الطائفة هم الذين زادوا في البسملة أيام الحاكم، فكتبوا: باسم الحاكم الله الرحمن الرحيم، فلما أنكر عليهم كتبوا: باسم الله الحاكم الرحمن الرحيم، فجعلوا في الأول الله صفة للحاكم، وفي الثاني العكس. وذكر أن منهم أهل كسروان ومن جاورهم. ثم قال: وكان شيخنا ابن تيمية رحمه الله تعالى يرى أن قتالهم وقتال النصيرية أولى من قتال الأرمن: لأنهم عدو في دار الإسلام وشر بقاءهم أضر.
وقد رتب على هذا المعتقد أيمانهم في التعريف فقال: وهؤلاء أيمانهم: إنني والله وحق الحاكم، وما أعتقده في مولاي الحاكم، وما اعتقده أبوه محمد الدرزي الحجة الواضحة، ورآه الدرزي مثل الشمس اللائحة، وإلا قلت: إن مولاي الحاكم مات وبلي، وتفرقت أوصاله وفني، واعتقدت تبديل الأرض والسماء، وعود الرمم بعد الفناء، وتبعت كل جاهل، وحظرت على نفسي ما أبيح لي، وعملت بيدي على ما فيه فساد بدني، وكفرت بالبيعة المأخوذة، وألقيتها ورائي منبوذة.
الفرقة الخامسة من الشيعة: النصيرية:
بضم النون وفتح الصاد المهملة، قال في إرشاد القاصد: وهم أتباع نصير غلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم يدعون ألوهية علي رضي الله عنه مغالاة فيه. قال الشهرستاني: ولهم جماعة ينصرون مذهبهم وينوبون عن أصحاب مقالاتهم قال: وبينهم خلاف في كيفية إطلاق الألوهية على الأئمة من أهل الكتاب واختلافهم راجع...........
ويزعمون أن مسكن علي السحاب، وإذا مر بهم السحاب قالوا: السلام عليك يا أبا الحسن، ويقولون: إن الرعد صوته، والبرق ضحكه؛ وهم من أجل ذلك يعظمون السحاب، ويقولون: إن سلمان الفارسي رسوله، وإن كشف الحجاب عما يقوله من أي كتاب بغير إذن ضلال، ويحبون ابن ملجم قاتل علي رضي الله عنه، ويقولون: إنه خلص اللاهوت من الناسوت، ويخطئون من يلعنه.
قال في التعريف: ولهم خطاب بينهم، من خاطبوه به لا يعود يرجع عنهم ولا يذيعه ولو ضرب عنقه. قال: وقد جرب هذا كثيراً، وهم ينكرون إنكاره.
قال في إرشاد المقاصد: وهم يخفون مقالتهم، ومن أذاعها فقد أخطأ عندهم، ويرون أنهم على الحق، وأن مقالتهم مقالة أهل التحقيق، ومن أنكر ذلك فقد أخطأ.
قال في التعريف: ولهم اعتقاد في تعظيم الخمر، ويرون أنها من النور. ولزمهم من ذلك أن عظموا شجرة العنب التي هي أصل الخمر حتى استعظموا قلعها. ويزعمون أن الصديق وأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنهم تعدوا عليه ومنعوه حقه من الخلافة، كما تعدى قابيل بن آدم عليه السلام على أخيه هابيل، وكما اعتدى النمرود على الخليل عليه السلام، وكما يقوم كل فرعون من الفراعنة على نبي من الأنبياء عليهم السلام.
قال في التعريف: وهي طائفة ملعونة مرذولة مجوسية المعتقد، لا تحرم البنات ولا الأخوات ولا الأمهات. قال: ويحكى عنهم في هذه حكايات.
وقد رتب في التعريف حلفهم على مقتضى هذا المعتقد، فقال: وأيمانهم: إنني وحق العلي الأعلى، وما اعتقده في المظهر الأسنى، وحق النور وما نشأ منه، والسحاب وساكنه، وغلا برئت من مولاي على العلي العظيم، وولائي له، ومظاهر الحق، وكشفت حجاب سلمان بغير إذن، وبرئت من دعوة الحجة بصير، وخضت مع الخائضين في لعنة ابن ملجم، وكفرت بالخطاب، وأذعت السر المصون، وأنكرت دعوى أهل التحقيق، وإلا قلعت أصل شجرة العنب من الأرض بيدي حتى أجتث أصولها وأمنع سبيلها، وكنت مع قابيل على هابيل، ومع النمرود على إبراهيم، وهكذا مع كل فرعون قام على صاحبه، إلى أن ألقى العلي العظيم وهو على ساخط، وأبرأ من قول قنبر، وأقول: إنه بالنار ما تطهر.
الطائفة الثالثة من أهل البدع: القدرية:
وهم القائلون بأن لا قدر سابق، وأن الأمر أنف: يعني مستأنفاً؛ ولكنهم لما سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «القدرية مجوس هذه الأمة» قلبوا الدليل وقالوا بموجب الحديث، وقالوا: القدرية اسم لمن يقول بسبق القدر. ثم غلب عليهم اسم المعتزلة بواسطة أن واصل بن عطاء أحد أئمتهم كان يقرأ على الحسن البصري فاعتزله بمسألة خالفه فيها. وهم يسمون أنفسهم أهل التوحيد وأهل العدل. ويعنون بالتوحيد نفي الصفات القديمة عن الله تعالى: كالحياة والعلم والإرادة والقدرة؛ وأنه تعالى حي بذاته، عالم بذاته مريد بذاته، قادر بذاته، لا بحياة وعلم وإرادة وقدرة؛ ويعنون بالعدل أنهم يقولون: إن العبد إنما يستحق الثواب والعقاب بفعله الطاعة والعصيان، وباعتبار أنه الخالق لأفعال نفسه دون الله تعالى، تنزيهاً له تعالى عن أن يضاف إليه خلق الشر: من كفر ومعصية. وإذا كان العبد هو الخالق لأفعال نفسه الموجد لها فليس قدر سابق.
ولهم أئمة كثيرة، لهم مصنفات في الأصول والفروع: منهم واصل بن عطاء، وأبو الهذيل العلاف، وإبراهيم النظام، وبشر بن المعتمر، ومعمر بن عباد، وأبو عثمان الجاحظ، وأبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم، وغيرهم. وعندهم أنه لا قدر سابق بل الأمر أنف، وأن الله تعالى إنما يخلق الأفعال والمشيئة، وأن العبد هو المكتسب لأفعاله كما تقدم.
وممن علت رتبته فيهم الجعد بن درهم، اجتمع على مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، وأخذ عنه مروان المذكور الجعدي. وكانت له واقعة مع هشام بن عبد الملك بن مروان. ويستعظمون الإيمان بالقدر: خيره وشره، ويتبرؤون منه، وينكرون القول بأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه. ويقولون: إذا كان أمر مفروغ منه ففيم يسدد الإنسان ويقارب؟. ويطعنون في رواة حديث: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له». ويتأولون قوله تعالى: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}. ويستعظمون البراءة من اعتقادهم، ولقاء الله تعالى على القول بأن الأمر غير أنف.
وقد رتب في التعريف: أيمانهم على هذا المعتقد، فقال: ويمينهم: والله والله والله العظيم ذي الأمر الأنف، خالق الأفعال والمشيئة، وإلا قلت: بأن العبد غير مكتسب، وأن الجعد بن درهم محتقب، وقلت: إن هشام بن عبد الملك أصاب دماً حلالاً منه، وإن مروان بن محمد كان ضالاً في اتباعه، وآمنت بالقدر خيره وشره، وقلت: إن ما أصابني لم يكن ليخطئني وما أخطأني لم يكن ليصيني، ولم أقل: إنه إذا كان أمر قد فرغ منه ففيم أسدد وأقارب، ولم أطعن في رواة حديث: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» ولم أتأول معنى قوله تعالى: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} وبرئت مما أعتقد ولقيت الله وأنا أقول إن الأمر غير أنف. وبالله التوفيق والعصمة.